عوامل ضعف الرهبنة بالصحراء الغربية (وادي النطرون )
لقد ظلت الرهبنة في تلك المنطقة في ازدهار مستمر وعمرت الجماعات الرهبانية أماكن متعددة في هذه الصحراء القاحلة حتى صدق وصف الزوار الأجانب الذين زاروا المنطقة وسجلوا أحاديثهم مع آباء البرية حين قالوا عنها إن الوادي صار فردوسا ارضيا يخرج من كل مكان صلوات وتسبيح النساك والمتوحدين وقد ظلت أعداد الرهبان وتجمعاتهم في ازدياد حتى وصل عدد رهبان وادي النطرون عند الفتح العربي كما يذكر التاريخ أن الرهبان الذين قابلوا عمرو بن العاص حين عودته بعد فتح الإسكندرية سبعون ألف راهب من هذه المنطقة وحدها بخلاف أديرة وسط الدلتا والصعيد والواحات .ومن الأسباب المباشرة في ضعف الرهبنة آنذاك وأخطرها هو تأثير هجمات البربر علي الأديرة وسنشرح فيما يلي هذه الغارات ونتائجها:
+ الغارة الأولي للبربر 407 : كان في البرية حتى كمال القرن الرابع تجمعات ( أديرة ) متكاملة مستقلة كانت قد أخذت شكلها الرهباني في برية شيهيت قبل نهاية القرن الرابع حسب ما كتبه سيرابيون كاتب سيرة القديس أبو مقار الكبير. وقد أخذت هذه التجمعات اسمها من أسماء مؤسسيها أو قديسيها الذين اعتبروا بركة للموضع . أما ترتيب ظهورها الزمني حسب التقليد الساري أن أول جماعة رهبانية عاشت في شيهيت عاشت في موضع البراموس الآن أما الجماعة الثانية فكانت في موضع دير أنبا مقار الحالي والجماعة الثالثة في موضع دير يحنس القصير (موضع الأديرة المخربة جنوب غرب دير أبو مقار الحالي) والجماعة الرابعة في موضع دير الأنبا بيشوي الآن (أما السريان الحالي فلم يظهر في الوجود قبل القرن السابع ) . وكان لكل تجمع كنيسة يصلي بها الرهبان يومي السبت والأحد القداسات والتناول من الأسرار المقدسة . وعندما هجم البربر علي البرية في هذا التاريخ هدم البربر الكنائس الأربعة في هذه الأماكن . وترك الرهبان أديرتهم من شراسة الهجوم والقتل .وفي هذه الغارة استشهد القديس موسي الأسود .أما الرهبان الذين تركوا أماكن تجمعاتهم ببرية شيهيت فقد ذهبوا وكونوا تجمعات أخرى في أماكن جديدة مثل القلزم وأنصنا في صعيد مصر وبرما في وسط الدلتا وسيناء شمالا وجنوبا ونصيبين في سوريا وقد عاصر هذا التخريب البابا ثيؤفيلوس 23 علي كرسي مار مرقص .
+ الغارة الثانية للبربر سنة 434 م : كما حدث في المرة الأولي لهجوم البربر حدث هكذا في هذه المرة تخريب للأديرة ونهبها .فترك بعض الرهبان البرية .ونشأت تجمعات جديدة مثل جبل طره الذي كونها أرسانيوس معلم أولاد الملوك حيث وجدت أطلال ديره بأعلى الجبل وقد ترك جبل طره سنة 444 م وذهب إلي كانوب ومنها إلي طرة سنة 447 م حيث تنيح هناك .
+ الغارة الثالثة سنة 444 م : بعد حدوث الغارة الأولي والثانية سنتي 407 و 434 وما نتج عن ذلك من تخريب ونهب وقتل نجد الجماعات الديرية بدأت تفكر جديدا في إقامة حصون يلتجئون إليها وقت الغارات بحيث تكون مهيأة بمخازن تحوي القوت الضروري لفترة طويلة ويكون بها بئر ماء وكنيسة يصلون فيها وهكذا تحتم علي النظام الرهباني إقامة الحصون التي نراها الآن بشكلها المتكامل في الأديرة وقد تم بالفعل إقامة أول حصن المدعو حصن "بيامون" وصار صالحا بالفعل لإيواء الرهبان قبل حدوث الغارة الثالثة التي حدثت سنة 444 م وهو الكائن حاليا بدير القديس مكاريوس الكبير . ويتزامن بناء هذه الحصون وأسوار الأديرة مع دخول الراهبة ايلاريا ابنة الإمبراطور زينون متخفية في زى الرجال وصارت ضمن مجموعة متوحدي دير أبو مقار وقد جعل والدها يغدق علي الأديرة وأعطي الهبات لبناء تلك الحصون والأسوار وكان ذلك في النصف الثاني من القرن الخامس حيث تتلمذت علي يد الأب (بامو) تلميذ أبو مقار.وقد استشهد في هذه الغارة التسعة والأربعين شهيدا شيوخ شيهيت ونهبت الأديرة وكان ذلك في نهاية بابوية القديس كيرلس الكبير عامود الدين .
+ الغارة الرابعة للبربر سنة 570الي 620 م : وفيها ظل البربر خمسين سنة محيطين بالأديرة يعاودون النهب والسلب مما سبب في توقف ازدهار الرهبنة .وتهدمت كنيسة أبو مقار وكنيسة ارستو ماخس وفي نهاية هذه الغارة أسر القديس يؤنس قمص شيهيت والقديس الأنبا صموئيل المعترف وقد تميزت هذه الغارة بتغطية براري كثيرة لم تتعرض قبل ذلك للغارات السابقة مثل برية القلمون حيث اسر القديس الأنبا صموئيل المعترف وتقابل مع القديس يؤنس في الأسر
+ الغارة الخامسة في خلافة المأمون سنة 817 م : هجمت قبائل العرب علي الوادي المقدس وادي النطرون وخربوا أديرتها ونهبوا وفتكوا برهبانها وطردوهم من البرية فلم يبقي منهم إلا القليل وكانت مصر في يد والي يدعي (عبد الله بن طاهر) هذا أباح لجنوده نهب الأديرة وإحراق الكنائس والتمثيل بالرهبان مما سبب في هروب الكثير منهم وتعد هذه أول غارة للعرب علي الأديرة بعد الخراب الذي حدث للأديرة والكنائس علي يد عمرو بن العاص حين فتح الإسكندرية وهدم سورها حيث هدمت خمسمائة كنيسة وألف دير .
+ الغارة السادسة للنوماتبين سنة 866 م : اختير الراهب شنودة أب للرهبان بدير أبو مقار وقمص شيهيت والمعماري النشط ليكون البابا ال55 (859- 880 )هذا الذي أخذوه قصرا وقيدوه بالحبال واحضروه ليرسم بطريركا ليبدأ عصر جديد من العمارة لأديرة البرية الغربية ودير أبو مقار خاصة إلا أن الظروف وقفت ضده تعانده فما كاد يعتلي كرسي مارمرقس حتى أغار البربر النوماتيين القادمين من شمال إفريقيا في أول يوم من برمودة سنة 866 م ونهبوا أمتعة الرهبان وأثاثات الأديرة ومخازنها. ولما علموا بوصول البابا البطريرك (أنبا شنودة ) والزائرين الذين معه أعادوا الغارة مرة أخري وعاودوا أعمال السلب والذبح . وقد ابدي البابا البطريرك شجاعة نادرة إذا خرج إليهم وحده من الدير رغم توسلات الرهبان جميعا ليواجه تهديداتهم وطلب منهم أن يقتلوه فاحتشم البدو من مهابته وشجاعته وقد كشف الرب عن عيونهم ليروا جيش من الملائكة في زى رهبان حول البابا الشجاع فخافوا وارتدوا عن البرية .فقام البابا بتحصين الأديرة وبني سورا عظيما حول كنيسة أبو مقار الكبرى .ومن الأمور التي ساعدت علي ضعف الرهبنة في ذلك العصر هو انصراف الرهبان عن عمل اليدين والاكتفاء بصلاة المزامير ولم يعتنوا بدراسة الكتاب المقدس فتقهقرت روحانيتهم وضعف نسكهم .ويذكر (ساويرس) أسقف الاشمونين في تاريخه أن الرهبان الذين أحبوا العزلة والتأمل عاشوا خارج هذه الأسوار في أديرة وعشوائيات وقد بلغ عدد هذه الأديرة أربعون ديرا بخلاف آلاف المغاير حتى منتصف القرن الرابع عشر .وقد زاد الطين بله انتشار وباء الطاعون في مصر فأصاب براري الرهبان وحصد الموت منهم آلاف مما جعل عددهم يتراجع جدا حتى اضطرتهم الظروف إلي البقاء داخل الأسوار
+ الغارة السابعة من اللواتيين سنة 1069: لقد ظهرت علامات من السماء علي هذه البلايا التي حلت بالأديرة والرهبان خاصة وبالأقباط عامة فقد نبع دم من أيقونة مارمينا الموجودة آنذاك بالخورس الأول بكنيسة أبو مقار الكبر وقد شهد هذه العلامة وكتب عنها الشماس الموهوب (بن منصور) كاتب سير البطاركة إذ توجه إلي الدير في زمان بطريركية ( الأنبا كيرلس الثاني ال67 ) وذلك سنة 1088 فوجد أن عدد رهبان شيهيت في جميع أديرتها 700 راهب . وقد بدأت هذه الإنذارات في شكل ظهور الدم من الإيقونات علي فم القديسين إعلانا بان هناك كارثة وشيكة الحدوث وقد بدأت هذه الظاهرة في بطريركية (أنبا خرستوذولوس) (1046-1077) وكان هذه الصورة تتكرر سنة 1065 م وكذلك سال الدم من أعمدة الكنائس .وفي سنة 1069 م هجم اللواتيين علي صعيد مصر وانتشروا في الصعيد ثم في البلاد كلها واخذوا البابا البطريرك (الأنبا خرستوذولوس) من داره ونهبوا ما فيها واستولوا علي أموال كثيرة جدا كانت في حوزته وكان يقول لهم انه مال مارمرقس ولكنهم عاقبوه وأهانوه جدا ولم يطلقوا سراحه حتى دفع لهم مبلغ كبير من المال بلغ 3000 ثلاثة آلاف دينار .وواصلوا سيرهم حتى وصلوا أديرة وادي هبيب فنهبوا الأديرة وقتلوا رهبانها وهرب منهم عدد كبير إلي الريف ولكن الله الرحيم لم يسكت فما أن جاءت سنة 1073 م حتى بدأت المجاعة والمصائب تخف وطأتها وذلك بظهور القائد الارمني الجنسية (بدر الدين الجمالي) الذي قتل القواد الأتراك واسترد الإسكندرية واخضع اللواتيين له وقهر الجيوش السودانية .