ارسانيوس والاب البطريرك :
+ اتى ذات يوم الباب ثاؤفيلس البطريرك ومعه والى البلاد إلى انبا ارسانيوس وسألوه كلمة فسكت قليلا ثم ثال لهم : (( انت قلت لكم شيئئا فهل تحفظونه ؟ )) فلما ضمن له الباب البطريرك امر حفظه قال لهم : (( اينما سمعتم بارسانى فلا تدنوا منه )).
+ وحدث ايضا مرة ان اشتهى البابا البطريرك ان يراه ، فارسل إليه يستأذنه ان كان يفتح له فأجاب : ان جئت فتحت لك ، وان فتحت لك فلن استطيع ان اغلق فى وجه أحد . وان فتحت لكل الناس فلن استطيع الاقامة هاهنا )).
فلما سمع الاب البطريرك هذا الكلام قال : (( ان مضينا إليه فكانتا نطرده فالافضل إلا نمضى إليه )).
زيارة اخ للقديس : دفعة اتاه أحد الاخوة وقرع بابه ففتح له ظانا انه خادمه ، فلما رآه انه ليس هو وقع على وجهه – فقال له الاخ :
قم يا أبى حتى اسلم عليك ولو على الباب . فقال له الشيخ : لن اقوم حتى تنصرف . والح الاخ فى الطلب فلم يقم . فتركه الاخ وانصرف .
زيارة بعض الاباء للقديس :
زاره مره بعض الشيوخ وسألوه عن السكون وعن قلة اللقاء فقال لهم :
ان العذراء ما دامت فى بين والديها فكثيرون يريدون خطبتها . فان هى دخلت وخرجت فانها بذلك لن ترضى كل الناس لان بعضهم يزدريها وبعضهم يشتهيها ، ولن تكون لها الكرامة إلا وهى مختفية فى بيت ابيها . هكذا النفس المهندية الهادئة المعتكفة متى اشتهرت تهلهلت .
زيارة إحدى العذارى من بناء رؤساء البلاط فى روما :
سمعت بخبره عذراء من بناء رؤساء البلاط فى روما . وكانت غنية جدا وخائفة من الله ، فلما جاءت لتبصره ومعها مال كثير وحشم وجنود ، تلقاها البابا ثاؤفيلس البطريرك بوقار كثير واضافها . فسالته ان يطلب إلى الشيخ بأن يفسح لها الطريق للمضى إليه . فكتب يقول له : ان السيدة (( ايلارية السقليكى ))(1)ابنة فلان من بلاط ملك رومية تريد ان تأذن لها برؤيتك لاخذ بركتك .
وكتب ذلك لمقدم الاديرة بان يمكن السيدة (( ايلارية السقليكى )) من زيارة الاباء القديسين واخذ بركتهم . فلم يشاء الانبا ارسانيوس ان تأتى إلى البرية وانفذ لها بركة من عنده وقال لها : (( هوذا قد علمت بتعبك وسفرك ونحن مصلون لاجلك . فلا تحضرى لانى لا اشاء ان ابصر وجه امرأة ))ز اما هى فلم تقبل وقالت : (( ان ثقتى بالله ان ابصر وجهك الملائكى ، لانىلا ما تبعت وجئت لانظر انسانا – فبلدى كثيرة الناس – بل اتيت لاعاين ملاكا )) . وامرت ان يشدوا على الدواب حتى اتت إلى البرية فلما وصلت إليه كان القديس ارسانيوس خارج قلايته . فما ان ابصرته حتى خرت عند قدميه فاقامها بعض وقال (( لقد اثرت ان تبصرى وجهى . وها انت قد ابصرتيه فماذا استندت ))؟.
اما هى فمن احتشامها لم تستطع النظر فى وجهه . فقال لها : (( إذا سمعت بأعمال فاضلة فاعملى على ان تمارسيها ولا تجولى طالبة فاعليها . كيف تجرأت فعبرت هذه البحار ؟ اما تعلمين انك امرأة ولا يليق بك الخروج إلى مكان ما اتريدين المضى إلى رومية قائلة للنساء الباقيات أننى رأيت ارسانى . فتحولين البحر طريقة للنساء ليأتوا إليه )). فأجابته السيدة قائلة : (( انى لايمانى يا ابى اتيت اليك وان شاء الله لن ادع امرأة تأتى اليك ، فصل من اجل واذكرنى دائما )) . فاجابها منتهرا قائلا: (( لا بل انى اصلى إلى الله ان يمحو خيالك واسمك وذكرك وفكرك من قلبى )) . وتركها ودخل قلايته . فلما سمعت ذلك لم ترد له جوابا ورجعت وهى قلقة الافكار ولما دخلت الاسكندرية اعترتها حمى لفرط حزنها .
اما الباب ثاؤفيلس البطريرك فانه استقبلها باكرام جزيل وسألها عن امرها . فقالت : (( يا أبتاه ليتنى ما قابلت الشيخ لانى لما سألته ان يذكرنى اجابنى )) . انى اصلى إلى الله ان يمحجو خيالك واسمك وذكرك وفكرك من قلبى )) وهوذا عبدتك تموت من الحزن . فقال لها الباب البطريرك : (( إلا تعلمين انك امرأة . وأن العدو يقاتل الرهبان بالنساء . فالى ذلك اشار الشيخ . واما عن نفسك فهو يصلى دائما وغير ناس تعبك وسفرك )) فطاب قلبها ورجعت إلى بلادها مسرورة .
+ حدث مرة ان كان انبا ارسانيوس قلا فعزم على ان يترك قلايته دون ان يأخذ معه شيئا منها ، وذهب إلى تلميذيه الكسندر وزوبل بشخصه وقال لا لسكندر قم واذهبي إلى المكان الذى كنت فيه ( وفعل السكندر ذلك ) وقال لزويل قم وتعال معى إلى النهر وابحث لى عن سفينه قاصدة الاسكندرية ثم ارجه واذهب إلى اخيك ، وقد تعجب زوبل من هذا الحديث ، وعلى ذلك فقد افترقوا – اما القديس ارسانيوس فقط انطلق إلى الاسكندرية حيث مرض مرضا خطيرا . وعاد تلميذاه إلى المكان الذى كان يسكنان فيه قبلا وقال أحدهما للاخر : (( ربما اساء احدنا إلى الشيخ ولهذا افترق عنا )) ولكن لم يمكنهما ان يجدا فى نفسيهما سببا يكون قد ايقة .وكان لما عوفى الشيخ انه قال : (( اقوم واذهب إلى الاباء )) وارتحل وعاد إلى (( البترا Patara)) (1) حيث كان تلاميذه ، واثناء عبوره النهر رأته جارية حبشية واتت من ورائه وامسكت بثوبه وجذبته ، فزجرها الشيخ . اما هى فأجابته : (( ان كنت راهبا فاذهب إلى الجبل )) فانت الشيخ نفسه بهذه الاشارة وقال فى نفسه : (( ارسانيوس ، ان كنت راهبا فامض إلى الجبل )).
من ثم استقبله تلميذاه الكسندرا وزوبل وخرا عند قدميه فطرح هو ايضا نفسه قدامهم . وبكوا جميعا فقال الشيخ :
(( اما سمعتم انى كنت مريضا ؟ اجابوه : (( نعم )) فقال لهم :
(( فلماذا لم تأتوا لتبصرونى )) اجابه الكسندروس قائلا : (( ان الطريقة التى افترقت بها لم تكن صحيحة وبسببها عثر كثيرون وقالوا / لو انهم لم يعصوا الشيخ فى امر ما .. ما كان افترق عنهم .
قال لهم الشيخ : أننى اعرف هذا ولكن اناسا ايضا عتيدون ان يقولوا ان الحمامة إذ لم تجد موضعا لرجليها رجعت إلى الفلك (2) . وهكذا استراح التلاميذ وسكنوا معه مره اخرى .
حياته الأخيرة ونياحته :
+ اخبر عنه دانيال تلميذه فقال :
كان كاملا فى الشيخوخة وصحيح الجسم مبتسما . وكانت لحيته تصل إلى بطنه . وكان طويل القامة لكنه انحنى اخيرا من الشيخوخة وبلغ من العمر سبعا أو خمسا وتسعين سنة . أربعون سنة منها حتى خروجه من بلاط الملك . وباقيها فى الرهبنة والوحدة . وكان رجلا صالحا مملوء من الروح القدس والايمان . وقد ترك لى ثوبا من الجلد وقميصا من الشعر ونعالا من ليف وبهذه الاشياء كنت أنا الغير المستحق اتبارك .
وقال تلميذه ايضا عنه :
انه لم اقربت ايامه اوصى قائلا : (( لا تهتموا بان تعملوا تذكارا لى ولكن قدموا قربانا فقط .. وكان يقول دائما : إذا كنت فعلت شيءا فى حياتى يستحق الذكرى فسوف اجده .
+ ولما قرب وقت نياحته دعا تلاميذه وعزاهم ووعظهم وقال لهم : (( اعلموا ان زمانى قد قرب فلا تهتموا بشيىء سوى خلاص نفوسكن ولا تنزعجوا بالنحيب على .)) وكان البار يتكلم بهذا ودموعه تنهمر من عينيه فقالوا له : (( يا أبانا . اتفزع انت ايضا ؟ اجابهم قائلا : (( ان فزع هذه الساعة ملازم لى منذ جئت إلى الرهبنة )).
وقال ايضا : هانذا واقف معكم أمام منبر المسيح المهاب ، فإذا جاءت الساعة رجائى إلا تعطوا جسدى لاحد من الناس )) . فقالوا له : فماذا نصنع لاننا لا نعرف كيف نكفنه ؟ فقال لهم الشيخ : (( اما تعرفون كيف تربطون رجلى بحبل وتجرونى إلى الجبل لتنتفع به الوحوش والطيور ))- وكان الشيخ يقول لنفسه دائما :
(( ارسانى ارسانى تأمل فيها خرجت لاجله ))
.. هكذا رقد القديس ودموعه تسيل من عينيه – فبكر تلاميذه بكاء مرا وصاروا يقبلون قدميه ويودعونه كانسان غريب يريد السفر إلى بلده الحقيقى .
ولما سمع الانبا بيمين بنياحته تنهد وقال : (( طوباك يا انبا ارسانيوس لانك بكيت على نفسك فى هذا العام فان من لا يبكى على نفسه هاهنا زمانا قليللا ، سوف يبكى هناك زمانا طويلا . فان كان ها هنا بكاء بارادتنا واما هناك فالبكاء من العذاب وعلى كلتا الحالتين لن تنحجو من البكاء وعلى ذلك فما امجد ان يبكى الإنسان على نفسه هاهنا )).
************
ولما حضر البابات ثاؤفيلس البطريرك الوفاة قال :
(( كوباك يا انبا ارسانيوس لانك لهذه الساعة كنت تبكى كل ايام حياتك )) .
ولما كان بلاديوس قد اورد سيرة مختصرة حوت بعض امور لم ترد فيما سبق فاننا نوردها كما هى اتماما للمنفعة .
قيل ان انبا ارسانيوس انه حين كان فى العالم كان رداؤه انعم من أى انسان اخر ، وحين عاش فى الاسقيك كان رداؤه احقر من الجميع .
ولما كان يأتى إلى الكنيسة – على فترات مبتاعدة – كان يقف وراء عامود حتى لا يرى أحد وجهة ولا يرى هو وجود الآخرين . وكان وجهه مثل وجه ملاك ، وشعره ابيض كالثلج وكثيفا ، اما جسده فكان جافا من الاتعاب ولحيته مستطيلة إلى وسطه ورموش عينيه قد تساقطت من البكاء . وكان طويل القامة مع انحناء خفيف من الاكبر ، وقد انتهت حياته وهو فى سن الخامسة والتسعين وقد عاش فى العالم اربعين سنة فى البلاط ايام الملك ثيئودوسيوس الكبير والد الامبراطورين اورنوريوس واركاديوس ، وقضى فى الاسقيط اربعين عاما ، وقضى عشرة اعوام فى طرة التى بجانب بابليون فى مواجهة منف التى فى مصر . وسكن ثلاثة اعوام فى كانوبيس الاسكندرية . وفى العامين الباقيين جاء إلى طرة مرة اخرى حيث رقد ولقد اتتنهى حياته فى سلام وخوف الرب