الأنبا بيصاريون
قيل عن الأب بيصاريون انه كان كطيور السماء ، وكأحد وحوش البرية ، وكائنات الأرض الزاحفة. أكمل حياته فى سكينة بلا هم. ولم يهتم قط ببيت ، ولا خزن طعاماً ، ولا اقتنى ملبساً أو كتاباً ، بل كان بكليته حراً من الآلام الجسدانية ، راكباً فوق قوى الإيمان ، صائراً بالرجاء مثل أسير الأمور المنتظرة ، طائفاً فى البرارى كالتائه ، عارياً تحت الاهوية وكان يصير على الضيقات مسروراً ، وكان إذا وجد مكاناً فيه أناس أو رهبان يعيشون حياة المجمع كان يجلس على الباب باكياً منتحباً مثل إنسان نجا من الغرق. وحدث مرة ان وصل إلى دير فجلس على باب الدير باكياً. فلما خرج أحد الإخوة قال له : لماذا تبكى أيها الإنسان ، اننى مستعد أن أعطيك قدر استطاعتى ما تحتاج إليه من أمور هذه الحياة. نهض ادخل الدير وارح ذلك على مائدة الشركة المباركة.
أجابه أنبا بيصاريون : إلى أن أجد ممتلكات بيتى الذى نهب، وغنى بيت بائى الذى أخذ بشتى الطرق ، لن اسكن تحت سقف لان قراصنة دفعوا بى فى البحر ، وعاصفة هبت على ، فتجردت من غناى ، وسقطت عن شرف نسبى اصبحت موضوع احتقار.
فلما سمع ذاك الأخ منه هذا الكلام المحزن. دخل وأحضر له قليلاً من الخبز وقال له : خذ هذا يا أبتاه ، واله قادر ان يرد لك حاجتك التى ذكرتها. لكن أنبا بيصاريون كان يصرخ ويبكى بصوت عال ويقول : " آمين. أطلب أنت يا أخى ، كى يرد لى الله شيئاً منها ، انى لست أعلم ان كنت أستطيع الحصول لى ما فقدته ، وما ابحث أنا عنه وهاأنذا فى عذاب ، وقد اقتربت من الموت بسبب العاصفة القاسية المتعددة الشرور المحيطة بى ، وانى احتمل هذا كله على رجاء رحمة الله التى ربما استحقها فى يوم الدينونة ".
وسأل إخوة بخصوص معنى ما قاله أنبا بيصاريون على باب الدير قائلين: أهو الغنى الذى ورثه من أبويه وفقده. ماذا تعنى هذه القصة؟ من هما الأبوان؟ ماذا قصد بالكلمات : بحر ، عواصف ، أمواج.
ماهية الرهبنة
+ قال أحد الشيوخ:
" لا تكون تحت السماء امة مثل المسيحيين إذا اكملوا ناموسهم كما لا توجد مرتبة جليلة كمثل مرتبة الرهبان إذا حفظوا طقوسهم. ولذلك فان الشياطين تحسدهم. يحاربونهم بكل اصناف الرذيلة ، ويجعلونهم يغمضون أعينهم عن خطاياهم ويوبخون خطايا غيرهم لكى يبعدوا عنهم السلامة ، ويلقوا فيهم الشرور. فنسأل الرب الإله ان يخزق شباكهم عنا ويخلصنا من أيديهم " .
+ وقال شيخ آخر :
" كما ان الإنسان الذى ترك المملكة وترهب يمدح من كل العقلاء والفضلاء لان الرهبنة أفضل من كل ما تركه ، إذ هى توصل إلى المملكة السمائية الدائمة ، كذلك إذا ترك إنسان الرهبنة وصار ملكاً ، فانه يلم من كل الفضلاء".
+ وقيل أيضا :
" ان المسيحيين الحقيقيين ، هم أفضل الأمم ، والرهبان أفضل المسيحيين ".
+ وقال أنبا يوحنا القصير :
" بالرغم من اننا نفر قليلون فى نظر الناس لكن دعنا نقدر الشرف الذى لنا أمام الله ".
ضبط الجسد وضبط الفكر :
من هو الراهب .. ؟
+ قال شيخ :
" ان الراهب يدعى راهباً من وجهتين : الأولى ، ان يبتعد من مناظر النساء ، ويرفض العالم وكل ما فيه ، ولا يهتم بشئ البتة. والثانية ، ان يتقى عقله من الآلام ويتحد بالرب وحده ، وحينئذ يثمر ثمر الروح الذى هو الحب والفرح والسلامة والخيرية ، وطول الروح والإيمان والود والوداعة والامساك. ومن كان هكذا فلن يوجد له ناموس يقاومه. وبقدر ما تكون همة الإنسان ملازمة لله بلا طياشة ، بقدر ما تكون نعمة الله متضاعف عليه ، وبقدر ما نتقرب إليه بقدر ما يهتم هو بنا ، ويقدر ما نبتعد عنه بهمتنا بقدر ذلك يبتعد هو عنا ، لأنه جعل الاختيار لنا فى ذلك ، إذ خلق روح الإنسان على صورته ، فهى بطبعها تحبه وتشتاق إليه ، وهى روحانية ، فهى تشتاق إلى الأمور الروحانية واما الجسد فخاصته من الأرض ، فهو يحب الأرضيات واليها يميل بطبعه. الصلاة الدائمة بتحريك الشهوات الجسدانية يجذب الشيطان النفس إلى الأمور الأرضية ، فينبغى للراهب ان يكون له افراز ، ويطلب من الله الهداية والمعونة حتى لا ينخدع ويعتمد عليه بإيمان تام ، لأنه بغير معونة من الله لا يقدر ان يناصب الشيطان ولا يبعد منه الأفكار الرديئة. لكنه إذا سلم نفسه لله ولازم الصلاة فان الله حينئذ يملك على نفسه ويجعل فيه هواه ، ويكمل فيه وصاياه. فالذى يعلم انه لا يقدر ان يعمل شيئاً بغير الله ، لا يفتخر كأنه قد عمل شيئاً ، لكنه يشكر الله الذى عمل. والشيطان إذا رأى إنسانا مجاهداً ، فانه يحرك عليه الأوجاع الخبيثة ، وقد يفسخ الله له المجال فى ذلك – حتى لا يتعظم بأنه جاهد ، حتى يلتصق به الصلاة الدائمة ، فإذا هو عرف ضعفه ، فان الله يبطلها عنه اعنى الأوجاع الخبيثة ، وتعبر نفسه فى هدوء وسلام ".
إلى المنتهى :
قال سمعان العمودى :
" كما ان الإنسان إذا مشى كثيراً نحو المدينة ونقص سيره ميلاً واحداً ، فقد أضاع كل تعبه ولم يدخلها ، كذلك الراهب إذا لم يجاهد إلى النفس الأخير لا يدرك مدينة الأطهار. وكما ان الإنسان إذا عدم آلة واحدة لا يقدر ان يكمل الصناعة اللازمة لها تلك الالة ، هكذا الراهب إذا عدم وصية واحدة ، لا يقدر ان يكمل سيرته ، فليس يكفيه ان يمنع جسده من الزنى فقط / بل ان يضبط فكره ونظرع وشهورة لسانه من الكذب والنميمة والشتم واتنعبير والمداينة والمزاح والمماحكة ، وبالاجمال من كل كلام بطال ، كما ينبغى له أيضا ان يعلم اعضاءه الخضوع لارادة الله ، وليست اعضاء جسده فقط ، بل وأعضاء انسانه الجوانى كذلك ..".
وجماعة من الإخوة انو إلى أنبا ايلاريون وقالوا له :
" ما علامة فضل الراهب ؟ ..
فقال لهم : " كثرة الحب والاتضاع يزنيان الراهب ويشرفانه فى الدنيا وفى الاخرة ، فيجب ان تكون له هذه الخصال وهى : ان يكون عاقلاً ، عالماً ، محتملاً صبوراً ، طاهراً ، عفيفاً ، سمعياً ، جواداً ، متريثاً ، رحيماً ، وقوراً ، كتوما ، شكوراً ، مطيعاً ، مداوماً الصمت ، متوفراً على الصلاة ".
+ قالوا : " إذا اجتمعت هذه الخصال فى إنسان ، فهل يسمى راهباً؟ " قال: " نعم ، انه راهب إذا تعب كذلك وشقى بمقدار ما تصل إليه قوته ".
ما عمله وسيرته
قاله شيخ :
" سيرة الراهب : " الطاعة – الهذيذ فى ناموس الله الليل والنهار – لا يدين لا يغضب – لا يتكلم – لا يبصر بعينه سراً – لا يبحث عن عيوب الناس – لا يسمع بأذنيه نقض آخرين – لا يخطف بيديه – لا يستكبر فى قلبه – لا يملأ بطنه- لا يفتكر افكار سوء – لا تكن له دالة ولا مزاح مع احد – ويعمل اعماله بمعرفة – ويجعل باله فى خطاياه – ويطلب من الله ان يهب له نياحاً واتضاعاً حقانياً ، ولا تكون له دالة مع صبى ، ولا خلطة مع امرأة. وان كلمه إنسان فلا يلاحجه ، وهكذا يكون ساكناً هادئاً مسكناً للروح المقدس.
وقال أنبا بيمين :
" ومن أدلة الرهبانية الشدة والمسكنة والمعرفة ، لأنه مكتوب من هؤلاء الثلاثة الرجال : نوح وأيوب ودانيال ، ان نوحاً يشبه المسكنه ، وأيوب يشبه الشدة ودانيال يشبه المعرفة ، فان كانت هذه الخصال الثلاثة موجودة فى إنسان فالله ساكن فيه ".